الجمعة، 25 أكتوبر 2013

الكتاتيب في الحضارة الإسلامية

مقال الأستاذ الدكتور راغب السرجاني: وُلِدَ عام 1964م بمصر، وتخرَّج في كلية الطب جامعة القاهرة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف عام 1988م، نشر في موقع قصة الاسلام بتاريخ 03/05/2010

يُعَدُّ الكُتَّاب من أقدم المراكز التعليمية عند المسلمين، وقيل بأن العرب عَرَفُوه قبل الإسلام، ولكن على نطاق محدود جدًّا، وكانت مكانة الكُتَّاب في القرون الهجرية الأولى عالية الشأن؛ إذ يُعِدُّ لبداية تعليم أعلى، "فكان الكُتَّاب يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا الحاضر، وكان من الكثرة بحيث عدَّ ابن حوقل[1] ثلاثمائة كُتَّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية"[2].

الهدف من إنشاء الكتاتيب

وكان الهدف من إنشاء الكتاتيب قد تمثّل في تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وقد اهتم النبي  بتعليم الأطفال والشباب، إذ أمر  أسرى المشركين عقب بَدْر، أن يُعلِّم كل واحد منهم "عشرةً من الغلمان الكتابة، ويخلِّي سبيله، فيومئذٍ تعلّم الكتابةَ زيدُ بن ثابتٍ في جماعةٍ من غلمة الأنصار"[3].

وكان الأطفال في الكتاتيب يُعلَّمون احترام اللغة العربية، خاصةً إذا كتبوا في ألواحهم آيات من القرآن الكريم، أو أحاديث النبي ؛ فقد قيل لأنس بن مالك الصحابي الجليل  (ت 93هـ): "كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم؟ قال أنس: كان المؤدب له أجانة[4]، وكل صبي يأتي كل يوم بنوبته (بترتيبه) ماء طاهرًا، فيصبُّونه فيها، فيمحون به ألواحهم. قال أنس: ثم يحفرون حُفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فيها فينشف. قلت: أفترى أن يلعط[5]؟ قال: لا بأس به، ولا يُمسح بالرجل، ويُمسحُ بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكتاب من المسائل؟ قال: أما ما كان من ذكر الله فلا يمحوه برجله، ولا بأس أن يمحو غير ذلك مما ليس في القرآن"[6].

فهذه الصورة الرائعة تعبر أصدق تعبير عما كان في نفوس أبناء ذلك العصر من احترام للحرف العربي عندما يكتب به الوحي الإلهي، فيختارون الماء الطاهر لمسحه، ويحفرون له في الأرض ويصبونه لينشف[7].



أشهر المعلمين في الكتاتيب

وقد اشتهر عدد من المعلِّمين في الكتاتيب وذاع صيتهم، فكان الحجاج بن يوسف الثقفي[8] مُعَلِّمًا بأحد الكتاتيب؛ يُعَلِّم الصبيان ويأجرونه خبزًا[9]، وعُرِفَ عن الضحاك بن مزاحم أنه كان مُؤَدِّبًا للصبيان في أحد كتاتيب الكوفة، وكان لديه ثلاثة آلاف صبي[10]! ويَرْوِي ياقوت الحموي[11] في (معجم الأدباء) أن كُتَّاب أبي القاسم البلخي كان به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان فسيحًا جدًّا يَتَّسِعُ لهذا العدد؛ لذا احتاج البلخي أن يركب حمارًا ليتردَّدَ بين هؤلاء وأولئك، ويُشْرِفَ على جميع تلاميذه[12].

وقد تعلم كثير من كبار الفقهاء والعلماء في الكتاتيب في صغرهم، فيحكي الإمام الشافعي عن مرحلة الكُتَّاب في صغره فيقول: "كنت يتيمًا في حجر أُمِّي، فدفعتني في الكُتَّاب، فلمَّا خَتَمْتُ القرآن دخلتُ المسجد فكنتُ أُجَالِس العلماء"[13].

المسجد النبوي وظهرت الكتاتيب في الشام بعد الفتح مباشرة، وتعلم فيها أبناء الفاتحين، يقول أدهم بن محرز الباهلي الحمصي[14]: "أنا أول مولود ولد بحمص (يعني من المسلمين)، وأول مولود رُئِي في كتف (يعني يحمل كتفًا مكتوبًا فيه القرآن)، وأنا أختلف إلى الكُتَّاب أتعلم الكتاب (يعني القرآن)"[15]. وممن تعلم في كتاتيب الشام وهو صبي إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة الشهير[16].

وقد كان الآباء يحرصون على أن يذهب أبناؤهم إلى المعلمين المجيدين، الذين لهم باع ودُربة على تعليم الأطفال، فكان من جملة هؤلاء، المسلم بن الحسين بن الحسن أبو الغنائم، (ت 544 هـ) الذي قال عنه ابن عساكر: "اشتغل بتأديب الصبيان، فحسن أثره في ذلك، وظهر له اسم في إجادة التعليم والحذق بالحساب حتى كثر زبونه"[17].

وقد كان الأمراء والخلفاء يحترمون المعلمين والمؤدبين، وينزلون على آرائهم؛ احترامًا لهم، ولذلك كان المعلمون يتمتعون بالاحترام الوافي من قبل الناس جميعًا، فقد بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس –رحمه الله- يستحضره؛ "ليسمع منه ابناه الأمين والمأمون، فأبى عليه، وقال: إن العلم يُؤتى، لا يأتي. فبعث إليه ثانيًا، فقال: أبعثهُما إليك يسمعان مع أصحابك. فقال مالك: بشريطة أنهما لا يتخطيان رقاب الناس، ويجلسان حيث ينتهي بهما المجلس. فحضراه بهذا الشرط"[18].

وقد شاركت المرأة في نشر التعليم في الكتاتيب منذ وقت مبكر، قال التابعي عبد ربه ابن سليمان: كتبت لي أم الدرداء في لوحي فيما تعلمني: "تعلموا الحكمة صغارًا تعملوا بها كبارًا"، وقالت: "إن لكل حاصد ما زرع من خير أو شر"[19].

ولم تكن مُقَرَّرَات وموادُّ التعليم واحدة في العالم الإسلامي، بل اختلفت من قُطْرٍ لآخر، وإن كانت تشتمل على القرآن الكريم، والقراءة والكتابة، وأحاديث الأخبار[20]، وبعض الأحكام الدينية، والشعر، وبعض مبادئ الحساب، وبعض قواعد اللغة العربية، وكانت مدَّة بقاء الطفل في الكُتَّاب خمسة أو ستة أعوام على الأكثر، وتكون في الغالب ابتداءً من السَّنَةِ الخامسة أو السادسة، ويحفظ الطفل خلال هذه الفترة القرآن كله أو بعضه، وعندما يُتِمُّ الطفل مدَّة الدراسة في الكُتَّاب، ويحفظ القرآن؛ يمتحنه المعلِّمُ ليتأكَّد منه، فإذا اجتاز الامتحان احتفل بالختمة[21].

ولأهمية تعليم الأطفال وتأديبهم، اهتم كثير من فقهاء ومؤلفي الإسلام بتربية الأطفال، وإرساء القواعد التربوية المهمَّة التي تُعين المدرسين والآباء على تعليم أبنائهم، فهذا الإمام الحجة أبو حامد الغزالي[22] يضع فصلاً في كتابه القيم "إحياء علوم الدين" بعنوان "بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول نشوئهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم"، ومما جاء فيه: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمْهُ نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر، وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القَيِّم عليه والوالي له"[23].
ونتيجة لمهارة بعض هؤلاء المعلمين والمؤدبين؛ فقد ترقّى بعضهم في وظائف الدولة حتى صار وزيرًا، مثل إسماعيل بن عبد الحميد الذي كان يعلِّم الصبيان، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن صار وزيرًا لمروان بن محمد[24]، وكذلك الحجاج بن يوسف الثقفي الذي صار كبيرًا لوزراء عبد الملك بن مروان.
وكان كثير من هؤلاء المعلمين يأخذون أجرة نظير تعليمهم للصبيان، ولكن الأعجب من ذلك، أننا وجدنا الشيخ أبا عبد الله التاودي (ت 580هـ)، وهو من أهل مدينة فاس بالمغرب، أنه "كان يعلِّم الصبيان، فيأخذ الأجر من أولاد الأغنياء، فيردُّه على أولاد الفقراء!" [25].
وكانت أوقات الدراسة في الكتاتيب تحدد بعلامات طبيعية, فشروق الشمس كان بدء اليوم الدراسي, يطول ويقصر تبعًا لشروق الشمس، وأذان العصر"[26].

وقد كان الأطفال يتعلمون في المساجد، إلا أن ذلك لم يكن بصورة منتظمة، فحينما كثر الهرج في المساجد؛ بسبب الأطفال عام 483هـ، فقد "استُفْتِي على معلمي الصبيان أن يُمنعوا من المساجد صيانةً لها، فأفتوا بمنعهم..." [27].

وأما بالنسبة للراحة والعطلات المدرسية، فقد لوحظ اهتمام المسلمين بإعطاء الصبي قسطًا من الراحة بعد عناء الدراسة، فهذا ابن الحاج العبدري - وهو من علماء المالكية بفاس في بلاد المغرب (ت 737هـ) - يقول: "إن ذلك مستحب لقوله : "رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ"[28]. فإذا استراحوا يومين في الجمعة[29] نشطوا لباقيها"[30]. وهناك تعطيل في أيام الأعياد، وحالات المرض، والرياح والعواصف والبرد والمطر الشديد.

وأما المعلم فإذا تغيّب لشغل طارئ "فعليه أن يستأجر للصبيان من يكون فيهم بمثل كفايته إذا لم تطل مدة ذلك... كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بد منه، قريبًا اليوم واليومين وما أشبههما، فيستخف ذلك إن شاء الله، وأما إن بَعُد أو خيف بعد القريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك"[31].

د.راغب السرجاني
_____________________________________________________________
[1] ابن حوقل: هو أبو القاسم محمد بن حوقل (ت 350هـ) رحّالة وجغرافي ومؤرخ، أشهر مؤلفاته هو التعليق والتنقيح لكتاب المسالك والممالك للإصطخري، وتعليقه بنفس الاسم. انظر: الزركلي: الأعلام 6/111.
[2] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص100.
[3] السهيلي: الروض الأنف 3/135.
[4] إناء من فخار يُوضع فيه الماء.
[5] يلعط أي يلحس، ولعل المراد هنا انطباع الأحبار على الأيدي أو الأرجل.
[6] ابن سحنون: آداب المعلمين ص40، 41.
[7] انظر: أكرم العمري: عصر الخلافة الراشدة ص281.

[8] الحجاج بن يوسف الثقفي: هو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي (40- 95هـ / 660- 714م)، قائد، داهية، خطيب. ولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف ثم العراق. ولد ونشأ في الطائف، وتوفي بواسط (بين الكوفة والبصرة). انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 11/236-241، والزركلي: الأعلام 2/ 168.
[9] ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/30.
[10] الذهبي: العبر 1/94.
[11] ياقوت الحموي: هو أبو عبد الله شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الرومي (574- 626هـ / 1178- 1229م) مؤرخ ثقة، من أئمة الجغرافيين. من أشهر مصنفاته: (معجم البلدان)، و(إرشاد الأريب). انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 6/128.
[12] ياقوت الحموي: معجم الأدباء 1/491.
[13] ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 473.
[14] أدهم بن محرز: هو أدهم بن محرز بن أسيد الباهلي (نحو 100هـ/ 718م) تابعي فارس، وقائد عسكري كبير، وشاعر من أهل حمص. كان فارس أهل الشام ورجلهم في أيامه. انظر: الزركلي: الأعلام 1/282.
[15] ابن بدران: تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر 2/ 367.
[16] المصدر السابق 3/180.
[17] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 58/74.
[18] المصدر السابق 8/269.
[19] السابق نفسه 70/158.
[20] أي الأخبار التاريخية والقصص.
[21] انظر: رحيم كاظم محمد الهاشمي، وعواطف محمد العربي: الحضارة العربية الإسلامية ص147-149.
[22] الغزالي: هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي (450- 505هـ / 1058- 1111م) الملقب حُجَّة الإسلام، الفقيه الشافعي، الفيلسوف المتصوف. مولده ووفاته في الطابران بخراسان. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان 4/ 216-218، والسبكي: طبقات الشافعية 6/191-211.
[23] الغزالي: إحياء علوم الدين 3/72.
[24] ابن كثير: البداية والنهاية 10/60.
[25] أبو العباس الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 2/210.
[26] حسن عبد العال: التربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري ص185.
[27] ابن كثير: البداية والنهاية 12/168.
[28] مسند الشهاب القضاعي (629)، والأصبهاني: حلية الأولياء 3/104، ويشهد له حديث: "يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً". مسلم: كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة... (2750).
[29] يقصد في الأسبوع.
[30] ابن الحاج العبدري: المدخل 2/321.
[31] حسن حسني عبد الوهاب: مقدمة كتاب آداب المعلمين ص57، وعلي بن نايف الشحود: الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل ص38.
رابط المقال الالكتروني  :http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9

الـمؤدبون في التراث التربوي الإسـلامـي

مقال للدكتور : محمد مريني ورد بمجلة المحجبة بتاريخ الخميس : 18 أبريل 2013
أولا : في معنى الأدب والمؤدب :
المؤدب كلمة مشتقة من "أدب".  وقد خضع المصطلح قبل أن يأخذ هذه الدلالة لتطورات متلاحقة. إذ كان اللفظ يدل -في الجاهلية- على معنى حسي يحيل على الدعوة إلى الطعام، هذا ما نفهمه من البيت المشهور الذي ورد على لسان طرفة ابن العبد(1):
نحن في المشتاة ندعو الجفلا
لا ترى الآدِبَ منّا ينتقـر
غير أن اللفظ سيأخذ في صدر الإسلام دلالة تربوية تهذيبية مرتبطة بالخلق الحسن، وهذا ما يدل عليه، قول الرسول صلى الله عليه وسلم "ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن"(2).
وقد لحق اللفظ تطور دلالي آخر عندما أصبح يحيل على لقب يطلق على من يُختار لتربية الناشئ وتعليمه. ظهر هذا النوع من التدريس في العصر الأموي؛ نتيجة عامل أساس يتمثل في حاجة الخلفاء والأمراء إلى تعليم أولادهم داخل القصور. ذلك أن مبدأ المساواة الذي يجعل الناس "سواسية كأسنان المشط"(3)، لم يكن يسمح أبدا في صدر الإسلام بأن يخص أبناء الخلفاء المسلمين بتدريس مستقل. فإذا ورد في كلام الخليفة عمر بن الخطاب -مثلا- حديث عن "تربية الأبناء" أو"تعليم النشء"، فالمعني بالتربية سيكون بالضرورة هو المسلم الذي يرتاد المسجد، والأماكن التربوية العمومية. ولن نكون أمام تربية مخصوصة لأبنائه وأهل بيته، وإنما هي تربية لعموم المسلمين؛ كما هو الحال في هذه الرسالة التي بعثها إلى أبي موسى الأشعري التي يقول فيها: "مُر من قَبلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يحلُّ عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحضُّ على الخلق الجميل"(4).
كما كتب أيضا إلى ساكني الأمصار، يقول: "أما بعد، فعلموا أولادكم العلوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر"(5).
ثـانيا : بدايات ظهور الـمؤدبيـن في تـاريخ الاسـلام :

كان للتحولات التي خضع لها نظام الحكم ابتداء من العصر الأموي -المتمثلة في ما سماه ابن خلدون "انقلاب الخلافة إلى ملك"(6)- أثر في ظهور تقاليد سلطانية جديدة، تعطي لأبناء الملوك والأمراء والسلاطين والأعيان والوجهاء ميزات تميزهم عن غيرهم: إن التربية التي يتلقاها ابن الخليفة أو الوزير لن تكون إلا داخل القصر، ولها فاعلون خاصون. وكان الأمويون يحرصون على أن يقوم بهذه المهمة شخص من المتضلعين في العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، يطلق عيه اسم "المؤدب". وكان هذا المؤّدِّب  يقيم أحيانا في ركن خاص به في قصر الخليفة، ويجري عليه جوائزه وعطاياه:
- فقد اختار معاوية بن أبي سفيان (ت60 هـ) لتأديب ولده مؤدبين:
أولهما هو  دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ). وكان عالما بأنساب العرب، خاصة نسب قريش، وله كتاب التشجير في النسب. كما كان عارفا أيضا  بآداب اللغة العربية(7).
وثانيهما هو عبيد بن شَرْيَة الجُرهمي (ت 67هـ)، صاحب كتاب الأمثال، وكتاب الملوك، وأخبار الماضين.
- واختار عمر بن عبد العزيز(ت61 هـ) لتربية ابنه صالحَ بْنَ كَيسان المدني (ت بعد 140هـ ) وكان ضالعا في الحديث والفقه.
- واختار يزيد بن معاوية (25 - 64 هـ ) لتأديب ابنه معاوية بن يزيد عمر بن نعيم العنسي (الملقب بالمقصوص).
- واختار عبد الملك بن مروان (26هـ -86 هـ) لتأديب أبنائه -الوليد وسليمان وهشام ويزيد- مؤدبين هم: عامر بن شراحيل الشعبي (ت107هـ)، ومحمد بن شَهاب الزُّهْري(ت 124 هـ)، الذي كان عالماً بالسيرة النبوية والحديث، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ) مولى بني مخزوم ) (ت 132هـ)، وكان عالماً باللغة العربية، وعلوم القرآن، والنحو.
- أما هشام بن عبد الملك بن مروان (71-125 هـ)، فقد اختار لتأديب أبنائه محمد بن شهاب الزُّهْري(ت 124 هـ)، وسليمان بن سليم الكلبي (ت 571هـ).
وقد كان الخلفاء الأمويون -والعباسيون في ما بعد-  يولون اهتماما كبير لتأديب أبنائهم. يتجلى هذا الاهتمام في عدة جوانب نذكرها كالآتي:
ثالثا : معايير اختيار المؤدبين :
- كان بعض الخلفاء يحرصون على حسن اختيار المؤدب؛ بما يتطلبه ذلك من عمليات وإجراءات قريبة مما هو معهود في المباريات، والامتحانات المعتمدة في العصر الحديث: من تحديد الطرف أو الأطراف التي ستقوم بعملية الاختيار، إلى انتقاء أولي للمؤدبين المترشحين لهذه المهمة، إلى اختبار يخضع له هؤلاء المترشحون، إلى اختيار المؤدب المناسب. لنر ذلك من خلال هذه الواقعة التي يذكرها الزجاجي في كتابه "مجالس العلماء":
لما أراد المتوكل (205-247 هـ) أن يأمر باتخاذ المؤدبين للمنتصر والمعتز، جعل ذلك إلى إيتاخ. فأمر إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك، فبعث إلى الطوال والأحمر وابن قادم وأحمد بن عبيد بن ناصح وغيرهم من الأدباء، فأحضرهم مجلسه. فجاء أحمد بن عبيد، فقعد في آخر الناس. فقال له من قرب منه: لو ارتفعت؟ فقال: حيث انتهى بي المجلس. فلما اجتمعوا قال لهم الكاتب: لو تذاكرتم وَقَفنا على موضعكم من العلم فاخترنا. فألقوا بيتا لابن غلفاء:
ذريني إنما خطئي وصوابي
علي وإن ما أنفقت مالاً
فقالوا: ارتفع "مال"، إذا كانت في موضع الذي. ثم سكتوا فقال لهم أحمد بن عبيد الله (من آخر الناس)، هذا إعراب فما المعنى؟ فأحجم القوم فقيل له: فما المعنى عندك؟ قال: أراد ما لومك إياي وإنما أنفقت مالا ولم أنفق عرضا، فالمال لا يلام على إنفاقه. فجاءه خادم من صدر المجلس فأخذه بيده حتى تخطى به إلى أعلى موضع وقال له: ليس هذا موضعك. فقال: لأن أكون في مجلس أرفع منه إلى فوقه أحب إلي من أن أكون في مجلس أحط عنه. ثم اختير وآخر معه(8).

رابعا : وظائف المؤدب :

لم تكن وظيفة المؤدب تعليمية، تنحصر في حدود تقديم العلوم الشرعية، والعلوم الفلسفية، والعلوم الرياضية، بل كانت وظيفته تربوية أيضا. وهذا كان يقتضي أن يكون المؤدب قريبا من المتأدب. بل كان يعيش في القصر أحيانا.
كان الخلفاء يحضرون الدروس، أو بعضها، ويبدون آراءهم في ما يعرضه المؤدب على الابن. بل إنهم قد يستعينون "بخبرة" أخرى خارجية للتأكد من صحة المادة التربوية أو العلمية التي يقدمها المؤدب الرسمي. ورد في المصدر السابق ما يلي: "أخبرنا المفضل قال: جاءني رسول الرشيد يوم خميس بكرا فقال: أجب. فدخلت عليه ومحمد عن يمينه، والمأمون عن يساره، والكسائي بين يديه باركا، وهو يطارح محمدا والمأمون معاني القرآن. فسلمت فرد، وقال: اِجلس. فجلست، فقال لي: كم اسم في سيكفيكهم الله؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، أولها اسم الله تبارك وتعالى لا إله هو، والثاني اسم النبي صلى الله عليه وسلم، والثالث اسم الكفرة، فالياء والكاف المتصلتان بالسين لله جل وعز، والياء والكاف المتصلتان بالهاء للنبي، والهاء والميم للكفرة. قال: كذا أخبرنا الشيخ. وأشار بيده إلى الكسائي، والتفت إلى محمد ، فقال له: أفهمت؟ فقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فاردد ذلك علي، فرد فقال: أحسنت"(9).

خامسا : من وصايا الخلفاء للمؤدبين :

هناك تقليد تكرر عند أغلب الخلفاء الأمويين والعباسيين، في بداية تسلم المؤدب لمهمة التأديب: لقد كان الخليفة يقدم وصية تتضمن التوجهات العامة للبرنامج الذي يريد الخليفة أن يخضع له ابنه. يمكن الوقوف عند مقاطع من هذه الوصايا لاستخلاص الملاحظات المناسبة:
تنوعت الصيغ الأسلوبية ل"استهلال" هذه الوصايا؛ فأحيانا يكون هناك تنصيص على صيغة "كتب" ، ويبدو أن التنصيص على فعل الكتابة هنا يحمل نوعا من "التعاقد"، بما يحمله فعل التعاقد من حقوق وواجبات للطرفين معا. في حين نجد في تقديم بعض هذه الوصايا ما يؤكد أنها قدمت بطريقة شفهية.
كما تقدم هذه الوصايا أحيانا مستعملة صيغة "أوصى".
وتجدر الإشارة إلى أن خطاب الوصية لا يتحقق فقط من خلال صيغة الفعل "أوصى" الذي تقدم بها هذه الوصية، بل نجد أحيانا أن الخليفة يضمن المؤدب وصايا خاصة: جاء في وصية هشام بن عبد الملك لمؤدب ابنه سليمان بن سُليم الكلبي: "عليك بتقوى الله، وأداء الأمانة فيه بخلال، أولها: أنك مؤتمن عليه، والثانية: أنا إمام ترجوني وتخافني. والثالثة: كلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه".
يشير هذا الخطاب إلى تحول في الأدوار، قياسا إلى ما هو معهود في علاقة الخليفة بالعالم؛ لأن العالم -في الأحوال الاعتيادية- هو الذي يوصي الخليفة.
------------
1- ديوان طرفة بن االعبد، تحقيق: عبد الرحمان المصطاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2003م، ص: 51
2-  سنن الترمذي، دار الكتب العلمية، (ب- ت)، ص: 1952
3- أوردت هذا الحديث للاستئناس، وذلك لأن حديث "الناس سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" ضعفه الكثير من العلماء. أنظر: الأحاديث الضعيفة للألباني، مكتبة المعارف للتوزيع والنشر، الرياض،1995، رقم: 596
4- أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ط مكتبة الخانجي، ج: 2، ص:180.
5- الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن،  19/78.
6- ابن خلدون، المقدمة، دار القلم، لبنان، 1978، ص: 202.
7- ابن حجر، تهذيب التهذيب، تحقيق: خليل شيحا-عمر السلامي-علي مسعود، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1996، ج: 3، ص: 210.
8- عبد الرحمان بن إسحاق الزجاجي، مجالس العلماء، تحقيق: عبد السلام هارون، الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1999م، ص: 49
9- المرجع نفسه، ص: 9